الأديب عبد الرازق أحمد الشاعر |
بقلم - عبد الرازق أحمد الشاعر
اغتاظ عمدة بروكلين، رادولف جولياني، من ممارسات أحد أعضاء الكونجرس الذي لم يكف عن المطالبة بزيادة الميزانية المخصصة للمشردين في دائرته في كافة الجلسات السرية والمعلنة، فما كان منه إلا أن قام ببناء ملجأ للمشردين بالقرب من منزله. وقد أعلن جولياني عن خبث طويته صراحة في قحة فجة: "فعلت هكذا نكاية بستيفن بايبرنزا. "
الطريف أن ضاحية بروكلين، الراقية جدا، لم تكن بحاجة إلى المزيد من الملاجئ حيث أن أقدام المشردين المشققة لم تكن تتحمل برودة رصيفها الرخامي أو صلافة أهلها الذائبين في آنية النعيم هناك. لكن النزل المغروز في خاصرة المدينة كان بمثابة خنجر في واجهة صاحبنا عضو الكونجرس.
المأساة لم تنته هناك عند بيت بايبرنزا الذي تكوم أمام المبنى الجديد كلوحة من القش المحترق، بل تجاوزه لينال من مصحة نفسية تقدم خدماتها لأكثر من خمسمئة عميل بعد أن اختارها العمدة الثائر مقرا لنقمته. وبضربة معول واحدة، تخلص العمدة الجهبذ من صوت الديمقراطية النشاز ورئيس المصحة الذي لم يتعامل كما يجب مع رجل يحمل لقبه.
ولم يهتم جولياني بصيحات المعارضين المستهجنة، ولا بكاريكاتير بوب هيربرت الذي صوره على هيئة طفل ينزع جناحي ذبابة في جريدة ذا نيوز. لم يكترث الرجل للملايين المهدرة، ولم يشفق على مئات المرضى الذين أوقعهم حظهم العاثر بين فكي المرض وأمثاله.
ما أصعب أن تتحول آلام البسطاء إلى سلعة تبخسها السلطتان التشريعية والتنفيذية، وأن يسقط البسطاء عمدا من أجندة المتاجرين بأحلامهم الذين يتحولون عادة من ممثلين لهم إلى ممثلين عليهم بمجرد إغلاق صناديق الاقتراع وإعلان نتائج الفرز! وما أبخسها من سلعة تلك التي يروج لها المتاجرون بالديمقراطية فوق أرصفة الجرائد وأمام حوانيت الفضائيات! وما أتفه الغايات التي تسعى إليها الأحزاب الساقطة التي تتخذ من ضلوع الفقراء منصات، ومن زفراتهم الحرى أبواقا دعائية تسوق لعهرهم السياسي وتدليسهم الفكري، فيلبسون حقوق البسطاء وآمال المشردين بباطل أحلامهم المريضة في الشهرة والسلطة والنفوذ.
في الثمانينات من القرن المنصرم، تحولت قضية المشردين في أمريكا إلى مسألة أمن قومي، وقامت العديد من الجامعات والأكاديميات المتخصصة بعمل دراسات مستفيضة حول ظاهرة التشرد باعتبارها من أخطر الظواهر الاجتماعية التي تهدد أمن المجتمع. وتوصل الباحثون إلى عدة خلاصات أهمها أن عدم توزيع المشردين بشكل متوازن على الولايات يعد سببا رئيسا في تفاقم مآسيهم الإنسانية، وأوصت الدراسة بإعادة توزيع المشردين جغرافيا كي يتم استيعابهم في مؤسسات المجتمع الخيرية.
لكن الدراسة التي تعاملت مع المشردين كأسواق تجارية أو كمحطات وقود تجاهلت إنسانيتهم وعلاقاتهم المجتمعية التي تكونت عبر عقود من الشتات، وتعاملت معهم كقوالب إسمنتية يمكن رصفها في أي قطعة فضاء. بيد أن أحد الموزعين على مآوي الشتات لفت انتباه أساتذة الجامعات إلى فقرهم الوجداني المدقع حين عاد من مخيم تأهيلي إلى شتات كان يعرفه، فلم يجد بين سكانه إلفا ولا سكنا. مما دفع الساخر جيري لويس إلى حمل أحد المشردين الأقزام مخمورا في قفص إلى حفل أحد القائمين على مشروع التأهيل وهو يحمل ورقة في يده تقول: "إلى من يظن أنه يملك كل شيء، جئتك حاملا كل شيء: إنسانيتي."
ليت القائمين على مشروع التأهيل هناك تقدموا بما هو أيسر، وهو إعادة تأهيل البشر، وإقامة ممر آمن للبسطاء بينهم، عن طريق توزيع الطيبين أصحاب القلوب الرحيمة على المدن بالتساوي لتسع المشردين والفقراء وذوي الحاجات. وليتهم تقدموا بمشروع يحظر الاتجار بأحلام البسطاء وآمالهم ويعاقب الساسة والمتنفذين الذين يوزعون الآمال الكاذبة في ضواحي الفقراء الذين لا يجدون إلا إنسانيتهم المحبوسة في أقفاص من الصفيح لا تصلح زرائب للماشية.