عبد الرازق أحمد الشاعر |
بقلم - عبد الرازق أحمد الشاعر
أسدى أحد مستشاري نابليون إياه نصيحة بتحريم التدخين باعتباره رذيلة موبقة، فنظر الرجل في عيني صديقه ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الولاء، ثم قال في لهجة متهكمة: "تلك الرذيلة تزود خزينة الدولة بمئة مليون فرنك سنويا. ورغم هذا، فأنا على استعداد لتحريمها بشرط أن تأتيني بفضيلة تزود الخزينة بمبلغ مماثل."
ليس للقيم سعر في عالم الاقتصاد إذن، ولا شأن لصانعي القرار وجابيي الضرائب بمُثُل تعصف بالبورصة أو تلوي عنق المستثمرين نحو موانئ أقل فضيلة وأكثر عائدا. والداخلون إلى سوق الأسهم بحزمة من المثل لن يخرجوا منها إلا بجيوب خاوية ونظرات عاتبة. البراجماتيون فقط هم الأكثر ربحا والأوفر حظا في عالم السياسة.
والسياسيون الذين يدخلون عتبة التاريخ بجملة من العظات، يخرجون عادة من بوابته الخلفية غير مأسوف عليهم، لأنهم يلجؤون في أحيان كثيرة إلى تشويه الحقائق لتتفق مع رؤاهم أو مناوراتهم من أجل البقاء أطول فترة ممكنة في قصورهم الرئاسية، وهنا ينكشف زيفهم وتظهر عوراتهم لشعوب آمنت بهم حد المجازفة ووثقت بكلماتهم حد العمى.
وما أسوأ البطانة التي تحرف الكلم عن مواضعه لتمرر مشروعا أو تشريعا، فتحول المقدس إلى رأي فيسقط الرأي ويسقط المقدس. ليت ناصح الفرعون صمت أو ليته استعان على قضاء حاجته بتقرير طبي عن صحة الفرعون أو صحة واحد من أفراد أسرته الذين دمر التدخين حناجرهم ونخر صدورهم! وليته توقف عن التحريم والتحليل جلبا لمنفعة أو درءا لكارثة.
لم يكن الفرعون في حاجة إلى فتوى تبرر حظر استيراد السجائر أو تحرم أو تجرم بيعها، لأن نابليون الذي كان يتلهى عن آلام حصوة المرارة بالتدخين لم يكن في حاجة إلى كلمات فوق علب التبغ تذكره بأضراره، ناهيك عن تشريع مقدس يحرم ضخ مئة مليون فرنك في شرايين الاقتصاد كل عام.
لكن الوطنية تُطغي أصحاب التدين المشروط والأسانيد المطبوخة، فتجعلهم يتجرؤون على الفتوى بقلوب مطمئنة وعيون مغلقة، فيوزعون الفتاوى مجانا على موائد الساسة ويغطون سوءات ملوكهم بالفتاوى المعلبة التي لا تسمن ولا تغني من بؤس. لم يكن نابليون ذا فضيلة ليدافع عنها، لهذا لم يجد حرجا في استيراد التبغ، ولم يكن في حاجة للدفاع عن مصالحه الآنية بأحاديث ضعيفة أو أختام مقدسة.
أما المغرورون بصلاحهم الذين يحشرون نصوص الدين في فراغات السياسة إنما يرقعون عباءة الدنيا من جلد الدين، فيصرفون الناس عن الهدى بعد إذ جاءهم ويرسمون خرائط ما اعوج من سرائرهم فوق صراط الله القويم، لينحرف الدين كيفما انحرفوا ويميل حيث يميلون. لا حاجة لنا بفتاوى تحلل القروض الربوية بحجة الضرورة، أو تحرم الاعتراض على مسودة دستور يراه فريق من المستشارين محرما.
الفضيلة تعرف طريقها نحو العرش أيها المدافعون عن الله بحرابكم الصدئة، وليس الله في حاجة إلى حشود تكرس العنف وتحرض على الكراهية، ولا إلى فتاوى تناصر الدين في مواجهة العلمانية أو اليسارية أو الاشتراكية، فنهر الدين يعرف طريقه نحو القلوب العطشى ما لم تعترض طريقه أحجار الزيف، وحتما لن يشاد الدين أحد إلا غلبه. اطمئنوا أيها المؤمنون، ولا تكونوا كمستشار نابليون الذي تبرع بالفتوى ذات جهالة ليفرض صلاحه بسيف الفقه، كي لا تمتهن المقدسات ويتجرأ السفهاء على بيوت الله وروادها، وادعوا إلى سبيل ربكم بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلوا المخالفين بالتي هي أحسن. يقول أندر موريس: "التواضع والإيثار فضيلتان يمتدحهما الناس ولا يتحلون بهما."