بقلم - عبد الرازق أحمد الشاعر
في فبراير من عام 1986، احتشد عدد ضخم من الليبيين الثائرين أمام منصة يتربع فوق خشباتها خمسة من الرجال يرتدون زيا عسكريا ويتوسطهم ميكروفون ضخم. وريثما غصت القاعة الحزبية بالأقدام، تعالت الهتافات الحماسية اللاهبة من حناجر جوقة الثائرين فوق المنصة والملتفين حولها لتتردد في المكان أهازيج فلكلورية صاخبة: "بالروح بالدم، نفديك يا قذافي. الموت لأمريكا. الموت لأمريكا."
وبدأت الدماء تغلي في العروق وتزحف في عزم نحو الرؤوس النووية الملتهبة. وشيئا فشيئا، تشنجت الأصابع وتكومت في راحاتها القلقة، وبدأت القبضات تعرف طريقها نحو الهواء في تحد واثق للشيطان الأكبر، ورغبة عارمة في جعل الأسطول الأمريكي طعاما لأسماك السردين الضالة. وبين رهط المغلوبين على ثورتهم، ارتفعت قبضة ثائرة فنالت من صلعة مصور أمريكي ينقل الأحداث عن كثب إلى مواطنيه الذين حتما سترهبهم الأصابع المعقوفة والحناجر المتربصة بفيالقهم المتقدمة نحو الهزيمة.
التفت الأمريكي مستغربا نحو صاحبنا المسكين الذي أنسته حميته أنه مجرد كومبارس بسيط في مسلسل أمريكي ممل تدار حلقاته من وراء البحار بتوجيهات مخابراتية غاية في الدقة والذكاء. كان الرجل يهم بترديد شعار كل من يريد التربع فوق رؤوسنا الخاوية على بلاطها القبوري البارد، فداهمته نظرة الأمريكي الحانقة، وجمدت الدماء في عروقه ويبست الهتافات في حلقه.
وجه المسكين نظرة إملاق نحو الكاميرا، ثم عاد وثبتتها فوق صلعة الأمريكي التي كانت تعكس أضواء المكان فوق قطرات بللورية كثيفة قبل أن يستفيق من صمته المخجل، ويلتمس الصفح من حامل الكاميرا الضخم. وبمجرد أن أدار الأمريكي عدسته، رفع الرجل قبضته الساقطة تارة أخرى، لكنها تجنبت هيكل الواقف أمام ثورته كصخرة تسد حلق كهف محتقن، ليردد مع جوقة الحانقين: "الموت لأمريكا .. الموت لريجان، الموت .. الموت .. الموت."
لكن أمريكا لم تمت رغم ما بذلته الحلوق والأيدي، ولم يفد المؤتمرون الثائرون قذافيهم بالروح ولا بالدم. بل تقدموا نحو رقبته ذات صهيل أخر لينحروه نحر البعير أمام حامل الكاميرا الديمقراطي جدا والأمين جدا على نقل هزلياتنا أمام الرأي العام الأمريكي ليضحك الأمريكي ملء معدته، بينما يعد حامل الكاميرا حقيبة سفره لينتقل بها نحو حلوق أخرى أكثر ثورية وأشد كراهية للشيطان الأكبر.
هو السيناريو نفسه الذي قاد زعيم الثورة الفرنسية دانتون نحو المقصلة ليضع رأسه الكبيرة حول أنشوطة أخرى بتهمة الانقلاب على الثورة. يومها وقف القذافي الفرنسي أمام المقصلة بشعره المنفوش ليخاطب عشماويه قائلا: "لا تخف وجهي عن أعين محبي وأنا ألفظ أنفاسي الأخيرة، لأنهم لن يروا مثل هذا الوجه حتى أمد بعيد." يومها، كان حامل الكاميرا هناك يصور عن كثب سقوطا آخر لرأس آخر شيبته الثورة وأخواتها، لكن صاحبنا الليبي لم يكن هناك، لأنه كان مشغولا يومها بمسلسلات مكسيكية أكثر دفئا وأقل دموية.
واليوم، يريبنا تنقل حامل الكاميرا نفسه وسط مدننا الربيعية جدا ليوزع فلاشاته الليلية هنا وهناك دون أن يجد من يصفعه على قفاه أو يضرب رأسه بقبضة عارضة ليذكره أن أهل البلاد المغلوبة على ثوريتها لم يفقدوا بعد وعيهم، وأنهم يعون تاريخ الكاميرا جيدا ويعلمون كيف تؤكل البلاد من أكتافها، وأنهم لن ينزلوا إلى الميادين في حماية حامل الكاميرا اللعين لأنهم يكرهون أن يكونوا مجرد كومبارس في مسلسل أمريكي مدبلج.
عبد الرازق أحمد الشاعر